في عام 1985 فتحت جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية تخصصا جديدا في الصحة العامة على مستوى البكالوريوس، وبالفعل تم تخريج دفعتين من أخصائيي الصحة في عامي 1990 و1991، وكنت أنا أحد خريجي الدفعة الثانية، ثم لسبب غير مفهوم تم إغلاق هذا التخصص في الجامعة بحجة عدم الحاجة إليه.
الآن في زمن جائحة كورونا هناك طلب كبير على أخصائيي الصحة العامة في كل مكان في العالم، في حين أن هناك تخصصات أخرى تدرّسها جامعاتنا يغرق خريجوها في البطالة.
هذا ليس أكثر من مثال بسيط على سوء التخطيط والإدارة في جامعاتنا العربية، وعدم القدرة على التنبؤ بحاجة السوق للوظائف في المستقبل.
تُرى ما هي وظائف المستقبل بالذات في الزمن الرقمي وعصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطاقة البديلة والأوبئة والجوائح؟ وقبل ذلك ما المهن المهددة بالاندثار في المستقبل القريب؟ وما دور الجامعات والحكومات العربية في التخطيط لسوق العمل في ظل وجود عدد هائل من الخريجين الذين تقذف بهم جامعاتنا ومعاهدنا سنويا إلى سوق عمل مكتظ ولا يرحم، ليغرقوا في كابوس مرعب اسمه البطالة؟
تُعد منطقة الوطن العربي من أعلى مناطق العالم في نسب البطالة، ويتوقع تقرير جديد أصدرته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “إسكوا” (ESCWA ) ونشرته وكالات الأنباء مؤخرا، أن تصل نسبة البطالة في هذه المنطقة إلى 12.5% في العام الجاري 2021، أعلاها في فلسطين (31%) وليبيا (22%) ثم تونس فالأردن (21%).
ما العمل؟ وما الحلول الممكنة؟
قبل الإجابة عن هذين السؤالين، علينا أن نعي ونؤكد مرارا وتكرارا أننا نعيش في زمن مختلف ستسود فيه الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطاقة البديلة، وفي هذا الزمن هناك مهن كثيرة ستنقرض تماما، ومهن جديدة تظهر حاليا لم يكن لها وجود قبل عدة سنوات، وأخرى قادمة لم توجد بعد، فحسب دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي (Weforum) نشرت مؤخرا فإن 65% من طلاب المدارس الابتدائية حاليا سيعملون في المستقبل في وظائف غير موجودة الآن.
المهن المنقرضة.. الطاقة البديلة وقطاع النقل مثالا
في تقرير أصدرته منظمة إمبر (Ember) المتخصصة في متابعة آخر المستجدات بشأن إنتاج الطاقة البديلة في أوروبا ويقع مقرها في مدينة لندن، كشفت من خلاله أن دول الاتحاد الأوروبي تمكنت خلال العام الماضي من إنتاج الكهرباء من المصادر البديلة بنسبة تجاوزت تلك التي أنتجت من الطاقة الأحفورية، وذلك لأول مرة بتاريخها.
وأفاد التقرير الذي نشرته وكالة أنباء رويترز، بأن 27 دولة من الاتحاد الأوروبي تمكنت من إنتاج ما تحتاجه من الكهرباء بنسبة 40% من الطاقة البديلة المتمثلة في طاقتي الرياح والشمس، لتتجاوز بذلك ما تم إنتاجه من الطاقة الأحفورية التي بلغت نسبتها 34%.
وفي الحقيقة فإن الاعتماد على الطاقة البديلة آخذ في الاتساع في كافة المجالات والقطاعات الاقتصادية على مستوى العالم، مؤديا إلى تغيرات عميقة على مستوى الوظائف في مختلف القطاعات وبالذات في قطاعي النقل والطاقة.
فإذا أخذنا قطاع النقل، على سبيل المثال، ممثلا بصناعة السيارات والطائرات، فإن هذا القطاع سيشهد تغيرا كاملاً في المستقبل القريب مع دخول السيارات والطائرات الكهربائية على الخط، وهو ما سيكون له تأثيرات هائلة على قطاع النقل أولاً، والطاقة ثانيا، والخدمات ثالثا.
كبرى شركات السيارات في العالم الآن تطوّر نماذجها الخاصة من السيارة الكهربائية، مثلا شركة كيا موتورز (Kia Motors) تعمل على تطوير سيارة كهربائية تسير نحو 500 كلم بالشحنة الواحدة، وشركة أودي (Audi) تعمل على تطوير سيارة تسير 643 كلم في الشحنة الواحدة، وكذلك باقي شركات السيارات. بل إن هناك دراسات مستقبلية لإنتاج سيارة تعمل على الشحن الذاتي، بمعنى أنها ليست بحاجة إلى شحن مطلقا!
ولا يتوقف الأمر عند السيارات الكهربائية، بل تعداه إلى الطائرات الكهربائية.
شركات الطيران في أميركا وأوروبا مثل شركة إيرباص (Airbus) وشركة أمبير (Ampaire) تعمل على تطوير طائرات تعمل بالطاقة الكهربائية فقط، ويتوقع أن تتم كافة الرحلات الداخلية والرحلات التي لا يزيد مداها عن 800 كلم باستخدام الطائرات الكهربائية بحلول عام 2025.
السؤال هنا أين ستصبح محطات الوقود وتعبئة البنزين الموجودة في كل شارع من شوارعنا في زمننا الحاضر؟
هذا قطاع سيندثر بالكامل هو وكافة المهن والوظائف المرتبطة به في غضون السنوات العشر القادمة، وهو ما سيؤثر بكل تأكيد على قطاع آخر متصل وهو قطاع الطاقة، فالحاجة إلى النفط ستقل أكثر فأكثر في المستقبل، وهو الأمر الذي سيؤثر على كافة المهن الفنية والخدماتية المرتبطة بهذا القطاع أيضا.
وفي الحقيقة من سيحتاج إلى البنزين في المستقبل؟
أنا شخصيا أدفع ما لا يقل عن 150 دولارا شهريا لتعبئة سيارتي بالوقود، لكنني أفكر جديا ببيع سيارتي التي تعمل على البنزين وشراء سيارة كهربائية، وأعتقد أن الكثيرين غيري في هذا العالم يفكرون بالطريقة نفسها، وأتوقع شخصيا أن ملايين السيارات التي تعمل على الديزل أو البنزين والتي تملأ طرقات شوارعنا حاليا ستختفي تماما في غضون سنوات قليلة لتحل محلها السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربائية، وعلينا أن نتخيل “جبال السكراب” التي ستكتظ بالسيارات التي تعمل على الوقود، والتي لم يعد هناك مكان لها في غضون السنوات القادمة!
أليس هذا منظرا مدهشا حقا؟
الإنترنت طريقة عمل وأسلوب حياة
بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربي 304 ملايين شخص عام 2020، 36% منهم من جيل الشباب من 18 إلى 24 سنة، 88% من مستخدمي الإنترنت في العالم العربي يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بشكل يومي، ويشاهد العرب 280 مليون فيديو عبر منصة يوتيوب (YouTube) في اليوم، وينشرون 10 ملايين تغريدة كل يوم في تويتر (Twitter).
هناك 164 مليون مستخدم للفيسبوك (Facebook) يوميا في العالم العربي، وفيسبوك وتويتر هما مصدر الأخبار الأكثر شعبية عند الشباب العربي، حيث إن 63% من هؤلاء الشباب يتابعون الأخبار من هذين المنصتين فقط، وهما بهذا يسبقان المحطات الفضائية والمواقع الإخبارية على الشبكة، ناهيك عن الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى.
%88 من مستخدمي الإنترنت في العالم العربي يتصلون بالشبكة عبر الهواتف الذكية، ومع نهاية عام 2020 وصل عدد مستخدمي الإنترنت عبر الهواتف الذكية إلى 280 مليون شخص (هذا الرقم لا يشمل دول شمال أفريقيا).
بتحليل سريع للحقائق أعلاه يتضح أننا أمام عالم جديد يختلف كل الاختلاف عن العالم الذي كان سائدا قبل 10 أو 20 سنة، نحن أمام مجتمع رقمي افتراضي هائل الاتساع ومتعدد الرؤى، ونحن أيضا أمام إنسان عربي جديد تماما، وهو إنسان افتراضي يمارس حياته بالكامل من خلال الاتصال بالشبكة. إنسان رقمي يتعلم ويتاجر ويعمل ويقرأ ويطالع ويحب من خلال الشبكة، فالإنترنت لم تعد مجرد وسيلة، بل هي طريقة عمل وأسلوب حياة.
ومع ولادة المجتمع الرقمي وسيادة الإنسان الافتراضي والتغيرات العميقة التي فرضها على سوق العمل، فإن هناك وظائف كثيرة جديدة ولدت لم يكن لها وجود قبل سنوات قليلة فقط، وظائف مثل التسويق الإلكتروني وإدارة مواقع التواصل الاجتماعي، وتصميم المواقع الإلكترونية، وصناعة المحتوى الرقمي، وإدارة أعمال صناع المحتوى، وتحرير الفيديو، وبرمجة السوفت وير والهارد وير، وتصميم التطبيقات والألعاب الإلكترونية، وتحليل البيانات الرقمية، والأمن الإلكتروني وحماية البيانات، وتطوير الحوسبة السحابية، وغيرها الكثير من المهن الجديدة التي لم نكن نتخيل وجودها من قبل.
وإذا أخذنا قطاعي السياحة والسفر على سبيل المثال، فقبل عدة سنوات كان أي إنسان في أي مكان في العالم يفكر بالسفر بغرض العمل أو السياحة والترفيه، يتوجه إلى أقرب مكتب سياحة له ليحجز تذاكر السفر، والفندق الذي سيقيم فيه.
حاليا لا داعي لكل هذا العناء، فمع وجودات تطبيقات مثل بوكينغ دوت كوم (Booking.com) وأغودا (Agoda) وهوتيلز دوت كوم (Hotels.com) وغيرها الكثير من تطبيقات السياحة والسفر، تستطيع حجز تذاكر الطائرة والفندق الذي ترغب بالإقامة فيه، وجدول الزيارة، بل حتى رقم المقعد ووجبة الغداء التي تريد تناولها على متن الطائرة أثناء رحلتك.
العالم اختلف، ومكاتب السياحة والسفر بشكلها القديم ستغدو من ذكريات التاريخ.
الروبوتات قادمة
حسب دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي نشرت مؤخرا، سيرتفع معدل الاعتماد على الآلات (Automation) في كافة أنواع الوظائف إلى 52% بحلول عام 2025.
وتوصلت الدراسة إلى أن الروبوتات ستقضي على نحو 85 مليون وظيفة في الشركات متوسطة وكبيرة الحجم خلال السنوات الخمس القادمة.
ووجدت الدراسة أن العمال الذين سيحتفظون بأدوارهم في السنوات الخمس القادمة سيتعين على نصفهم تعلم مهارات جديدة، وأنه بحلول عام 2025 سيقسم أصحاب العمل أعمالهم بالتساوي بين البشر والآلات.
يبدو الأمر للوهلة الأولى مرعبا، لكنه ليس كذلك حقا، فمقابل المهن الكثيرة التي ستندثر هناك مهن جديدة لم يكن لها وجود ستظهر، فقد ذكرت الدراسة أن أكثر من 97 مليون وظيفة جديدة ستنشأ في الاقتصاد الجديد، وبالذات في مجال الصناعات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي وإنشاء وإدارة المحتوى. وجاء في الدراسة أن المهام التي سيحتفظ البشر فيها بميزتهم التنافسية، تشمل الإدارة والاستشارات وصنع القرار والتفكير والتواصل والتفاعل.
وسيزداد الطلب على العمال الذين يستطيعون شغل الوظائف المرتبطة بالاقتصاد الصديق للبيئة ووظائف البيانات المتطورة، والذكاء الاصطناعي وأدوار جديدة في الهندسة والحوسبة السحابية وتطوير المنتج وإدارته.
وهناك وظائف أخرى عديدة ستبقى وسيزداد الطلب عليها وبالذات في قطاع الرعاية الصحية، فلن تنتهي الحاجة إلى الأطباء والممرضين وفنيي المختبرات ومراقبي الصحة العامة ومهندسي البيئة، والمختصين في صيانة الأجهزة الطبية وغيرها الكثير من المهن.
الآثار الاجتماعية والاقتصادية ودور الحكومات
الآثار الاجتماعية والاقتصادية للثورة الرقمية وتطور الذكاء الاصطناعي ستعتمد على كيفية رد فعل المجتمع والناس تجاهها، فالثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي عملة لها وجهان، من الممكن مثلاً أن تقضي على البشرية، أو العكس أن تعمل على رفاهية الإنسان على هذه الأرض من خلال تحرير البشر من ضرورة العمل، وتقسيم الثروة الناتجة بشكل عادل ومتساوٍ بين كافة أفراد المجتمع، وهذا يتطلب تفكيرا مختلفا عن جشع رأس المال السائد حاليا، لكن في المدى المنظور فإن هناك دورا مهما للحكومات والجامعات ومعاهد التدريب المهني، يتمثل في فتح تخصصات جديدة في الجامعات الحكومية والخاصة تتناغم مع سوق العمل المستقبلي، وإلغاء التخصصات التي لم يعد هناك حاجة لها، مع التركيز على التدريب للعمال المهددين بفقد وظائفهم.
وتبدو الحاجة ماسة إلى عقد اجتماعي جديد يلزم الدول والحكومات، وأيضا الشركات العملاقة العابرة للقارات، بتوفير منظومة شاملة للحماية الاجتماعية، يصرف عليها من الأرباح الضخمة التي سيوفرها الاعتماد على الآلات والروبوتات في العمل، وتتمثل هذه المنظومة في:
- اقتطاع جزء معين من أرباح الشركات العملاقة للصرف على منظومة الحماية الاجتماعية (يمكن ذلك من خلال زيادة نسبة ضريبة الدخل على هذه الشركات).
- الحق في التعليم والتدريب للجميع على المهن الجديدة المطلوبة في سوق العمل، وبالذات للشباب العاطلين عن العمل، وللعمال المهددين بالبطالة.
- الحق في الضمان الاجتماعي للجميع، وهذا يولد مسؤولية مضاعفة على مؤسسات الضمان الاجتماعي في مختلف دول العالم.
- كذلك الحق في التأمين الصحي للجميع.
وهذه هي الحدود الدنيا المطلوبة لتوفير الحماية الاجتماعية للعاطلين عن العمل وعائلاتهم، ولإعادة تأهيلهم من خلال توجيههم لتعلم مهن جديدة.
المستقبل ليس معتما، بل يبدو مشرقا في الكثير من المجالات، علينا أن نعي فقط أنه عالم جديد يتشكل، وعلينا أن نطوّر من مهاراتنا وأدواتنا كي نواكب الزمن الجديد.