فادي (33 عاماً)، طلب استشارة نفسية بعد أن شعر بضيق في صدره، خاله في البدء ناتجاً عن مشكلة صحية. لكنه سرعان ما اكتشف أنه ناجم عن ضغط نفسي. عند سؤاله عن سبب الزيارة أجاب: “سأتزوج قريباً، وأنا خائف جداً. أحبها، لكن فكرة الزواج تشعرني بالإحباط”.
فوبيا الزواج أو الـ”جاموفوبيا”، مصطلح غريب بعض الشيء عن عالمنا العربي، مع أن الإصابة به شائعة جداً. هو خلل نفسي يتميز برهاب خارج عن سيطرة الشخص، وغير مستند إلى أسباب منطقية في شأن الارتباط الرسمي، وخصوصاً الزواج. هذا الرهاب يؤئر مباشرة على الشريكين، فيصبح الشخص المصاب به يتهرب من متطلبات العلاقة ومسؤوليتها، في حين يشعر شريكه بالتهديد المستمر، وبضغط نفسي، من دون أن يجد أسباباً أو وقائع وراء خوف شريكه. تظهر نتائجه عند الأشخاص الذين يمتنعون عن الزواج، ويعيشون حالة العزوبية الأبدية، أو الذين هم غير قادرين على الاستمرار في علاقة مستقرة مع الشريك، فيفتشون عن الأسباب الموجبة، حتى وإن كانت وهمية لإنهاء العلاقة، بالهجر أو الطلاق. ماذا عن أسباب هذا المرض؟ كيف تظهر أعراضه على الشخص وبماذا يشعر؟ وماذا عن أرقام العزوبة وتفشي تلك الفوبيا في العالم العربي؟
وطن عربي نحو العزوبة!
أصبح عمر الزواج في العالم العربي متقدماً، رغم التمسك الاجتماعي والديني بمؤسسة الزواج. ففي مصر، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن نسبة المصريين الذين هم في سن 35 وما فوق وغير متزوجين، وصلت إلى 13 مليوناً، 10,5 ملايين منهم نساء. وفي الكويت، وصلت نسبة العزوبة إلى نحو 35% وفقاً لبعض الإحصائيات الرسمية، التي عزت سبب امتناع الشباب الكويتي عن الزواج إلى المسؤوليات المالية الباهظة الناتجة عنه. وأكدت وزارة التخطيط في السعودية أن نسبة السعوديات اللواتي تخطين سن 30 ولم يتزوجن بلغت 4 ملايين فتاة. أما في الإمارات، فظاهرة زواج الرجل الإماراتي بأجنبية، ساهمت في ارتفاع نسبة العزوبة عند الفتاة، علماً أن أكثر من 180 ألف فتاة إماراتية فاتها سن الزواج، وفق مؤسسة صندوق الزواج، التي أشارت إلى أن ذلك نتيجة طبيعية لما يعانيه الشباب من ظروف يصعُب معها توفير كلفة الزواج الباهظة. وفي لبنان، نسبة العزوبة لدى الرجال بين الفئة العمرية 25-29 سنة، بلغت 81%، في حين أنها عند النساء 51%.
بالنظر إلى بعض الأرقام العالمية، نجد في الولايات المتحدة الأميركية 112 مليون شخص غير متزوج واعمارهم فوق سن 18، ما يمثل نحو 47٪ من السكان البالغين. وأصبح الرجال والنساء الحاصلون على درجة البكالوريوس على الأقل لا يقدمون على الزواج قبل بلوغ سن الـ46، و43% من الزيجات التي جرت في سن 15-46 انتهت بالطلاق. هذا ما نشره المسح القومي لنمو الأسرة في الولايات المتحدة، الذي ربط بين التحصيل العلمي وقرار الزواج، معتبراً أنه كلما زادت نسبة الوعي والثقافة لدى الشخص، زاد تريثه باتخاذ قرار الزواج. أما في الدول الأرووبية، فالزواج لم يعد أولوية مطلقة أيضاً. ففي تقرير حديث للأمم المتحدة، وجد الباحثون أن عدد الزيجات لكل 1000 شخص انخفض داخل الاتحاد الأوروبي في العقود الأخيرة، في حين ارتفعت حالات الطلاق. وفي المملكة المتحدة، تحدث أكثر من 30000 حالة طلاق سنوياً و82 كل يوم.
تفتح المرأة أم غلاء المعيشة؟
سهى، مهندسة في أواخر الثلاثين من عمرها، تعشق السفر وحاصلة على شهادات مهمة، وتملك شركتها الخاصة. تعاني من الوحدة، لذلك زارت العيادة النفسية: “أعشق عملي لكنني لا أريد الاستمرار في الحياة وحيدة. أحسد أختي التي تزوجت وأصبحت أماً، لكنني لا أخالها سعيدة في زواجها”.
بالبحث عن الأسباب المعلنة، يبدو أن المرأة العربية المتعلمة والمثقفة، والتي تتمتع بتطلعات مستقبلية تصاب بإحباط وبخيبة أمل من النظام الأبوي الذكوري المهيمن. نتيجة لذلك، تقرر التركيز على حياتها العملية، وتحقيق أحلامها في الحرية والإنجاز، فتصبح إما متريثة في الزواج، الذي ترى أنه يهدد مستقبلها المهني، أو تقلع عنه. نوع آخر من النساء في الدول العربية يصر على فرض شروط معينة على الشريك في عقد الزواج، مثل الحق في مواصلة التعليم والعمل والحصول على إقامة منفصلة خاصة بها، وفي حالات أخرى، حق الطلاق بموجب قانون الخلع. شروط لا يقبلها العديد من الرجال العرب، ما يجعلهم يتريثون أو يقلعون نهائياً عن الزواج، إضافة إلى تكاليف حفلات الزفاف الخيالية.
أما في المقلب الآخر، فالخوف من الارتباط ناتج أيضاً عن حالات الطلاق، التي لم تعد استثنائية في العالم العربي، بل أصبحت شائعة جداً، ولا تستثني فئة دينية أو طبقة اجتماعية. ينتج الخوف حينها عن أسلوب التعميم، الذي يجعل الشخص يستنتج، مستنداً إلى الوقائع، أن نسبة كبيرة من العلاقات يمكن أن تبوء بالفشل. فيعتبر أن فرصته في إنجاح علاقته الزوجية ضئيلة، معمماً تجارب الآخرين عليه. كحال طارق مثلاً، الذي يشكو من عدم تمكنه من المحافظة على علاقة مستقرة مع شريكته. إذ حين تشعره بالالتزام أو الارتباط يصبح مرتبكاً ويفتش عن أي مهرب، حتى لو أدى به الأمر إلى إنهاء العلاقة. يشعر بالندم، لكنه يعترف أن الأمر خارج عن سيطرته.
أسباب الـ”جاموفوبيا” وأعراضها من داخل العيادة النفسية
من أسباب فوبيا الزواج، شعور الشخص بعدم القدرة على تحمل المسؤولية المترتبة عليه، ما يزيد القلق والإرباك، فيتهرب من هذه المسؤوليات، ويتحجج بالمادة والوقت، حتى وإن كانا متوفرين، أو يتذرع بأنه يحتاج وقتاً إضافياً لدرس هذه الخطوة. البعض لا يرغبون في الارتباط بشخص واحد لأنهم، وإن أخلصوا له، في حاجة للإغواء والشعور أنهم ما زالوا قادرين على استقطاب الجنس الآخر، الذي يشعرهم بالرضا والاكتفاء العاطفي.
أما السبب الأكثر شيوعاً فهو الخوف من الفشل. الفشل الذي عبرت عنه داليدا )27 عاماً)، وهي شابة تعيش مع والدتها بعد انفصال أهلها في عمر مبكر، وسفر والدها خارج البلاد. تتميز داليدا بذكاْء وشخصية لافتة، جاءت تخبرني عن إعجاب الرجال بها. وفي سياق حديثها، تقول باكيةً: “ماذا إذا تزوجت أحدهم فهجرني كما فعل والدي؟”. هذا الخوف الذي يستمد جذوره من مرحلة الطفولة أو المراهقة، يعظم في نفس الإنسان، خصوصاً إن كانت العلاقة بين الأب والأم غير متكافئة، وفيها طرف يشعر بالظلم أو يعاني من عنف الآخر. يركن حينها الطفل إلى آلية الاستدماج (introjection)، فيقتنع في عقله الباطني أن أي علاقة زوجية سيقيمها في ما بعد ستكون نسخة عما عايشه في صغره، فيخشى أن يكرر هذا النمط في الزواج، ويصبح غير قادر على الشعور بالأمان إلى جانب الشريك، وتتسم علاقاته العاطفية بعدم الاستقرار.
تظهر أعراض الـ”جاموفوبيا” الجسدية جلية على الشخص المصاب خصوصاً حين يشعر بالالتزام أو الضغط، أو اقتراب موعد الارتباط . فنراه يرتجف، يشعر بالغثيان وبرغبة في البكاء، يزيد معدل ضربات القلب بشكل ملحوظ ومقلق، يشكو من آلام في الصدر، ودوار متكرر مع ضيق في النفس وإحساس بالتعرق. تترافق هذه كلها مع قلق مستمر وخوف يتملك الشخص ويؤثر على وظائفه الحياتية، مثل النوم والأكل والعمل والعلاقات بالآخرين. يحاول تجنب موضوع الزواج باستمرار، لتفادي الأفكار السلبية والصور التي تثير الخوف في نفسه، لكنه لا يستطيع السيطرة عليه.
يعالج مرض رهاب الزواج أو الـ”جاموفوبيا” بمساعدة الشخص على التعبير عن مخاوفه، ما يجعله أكثر سيطرة وإدراك، من خلال تطهير اللاوعي من ترسبات الماضي والأفكار السلبية المحيطة بفكرة الارتباط والزواج. وبالطبع تختلف آلية العلاج من شخص إلى آخر، لكن الأساس يبقى في إعادة بناء ثقة الشخص بنفسه، وبقدرته على الاستمرار في علاقة تكون مبنية على التفاهم، يمكنها أن تنجح وتستمر رغم المشاكل والصعوبات.